دلائل الإعجاز
عبد القاهر البغدادي
المدخل إلى إعجاز القرآن
بسم الله الرحمن الرحيم
توكلت على الله وحده
قال الشيخ الإمام مجد الإسلام أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني رحمه الله تعالى الحمد لله رب العالمين حمد الشاكرين وصلواته على محمد سيد المرسلين وعلى آله أجمعين هذا كلام وجيز يطلع به الناظر على أصول النحو جملة وكل ما به يكون النظم دفعة وينظر منه في مرآة تريه الأشياء المتباعدة الأمكنة قد التقت له حتى رآها في مكان واحد ويرى بها مشئما قد ضم إلى معرق ومغربا قد أخذ بيد مشرق وقد دخلت بأخرة في كلام من أصغى إليه وتدبره تدبر ذي دين وفتوة دعاه إلى النظر في الكتاب الذي وضعناه وبعثه على طلب ما دوناه والله تعالى الموفق للصواب والملهم لما يؤدي إلى الرشاد بمنه وفضله قال عبد القاهر رضي الله تعالى عنه معلوم أن ليس النظم سوى تعليق الكلم بعضها ببعض وجعل بعضها بسبب من بعض والكلم ثلاث اسم وفعل وحرف وللتعليق فيما بينها طرق معلومة وهو لا يعدو ثلاثة أقسام تعلق اسم باسم
وتعلق اسم بفعل وتعلق حرف بهما فالاسم يتعلق بالاسم بأن يكون خبرا عنه أو حالا منه أو تابعا له صفة أو تأكيدا أو عطف بيان أو بدلا أو عطفا بحرف أو بأن يكون مضافا الأول إلى الثاني أو بأن يكون الأول يعمل في الثاني عمل الفعل ويكون الثاني في حكم الفاعل له أو المفعول وذلك في اسم الفاعل كقولنا زيد ضارب أبوه عمرا وكقوله تعالى أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها وقوله تعالى وهم يلعبون لاهية قلوبهم واسم المفعول كقولنا زيد مضروب غلمانه وكقوله تعالى ذلك يوم مجموع له الناس والصفة المشبهة كقولنا زيد حسن وجهه وكريم أصله وشديد ساعده والمصدر كقولنا عجبت من ضرب زيد عمرا وكقوله تعالى أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما أو بأن يكون تمييزا قد جلاه منتصبا عن تمام الاسم ومعنى تمام الاسم أن يكون فيه ما يمنع من الإضافة وذلك بأن يكون فيه نون تثنية كقولنا قفيزان برا أو نون جمع كقولنا عشرون درهما أو تنوين كقولنا راقود خلا وما في السماء قدر راحة سحابا أو تقدير تنوين كقولنا خمسة عشر رجلا أو يكون قد أضيف إلى شيء فلا يمكن إضافته مرة أخرى كقولنا لي ملؤه عسلا وكقوله تعالى ملء الأرض ذهبا وأما تعلق الاسم بالفعل فبأن يكون فاعلا له أو مفعولا فيكون مصدرا قد انتصب به
كقولك ضربت ضربا ويقال له المفعول المطلق أو مفعولا له كقولك ضربت زيدا أو ظرفا مفعولا فيه زمانا أو مكانا كقولك خرجت يوم الجمعة ووقفت أمامك أو مفعولا معه كقولنا جاء البرد والطيالسة ولو تركت الناقة وفصيلها لرضعها أو مفعولا له كقولنا جئتك إكراما لك وفعلت ذلك إرادة الخير بك وكقوله تعالى ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله أو بأن يكون منزلا من الفعل منزلة المفعول وذلك في خبر كان وأخواتها والحال والتمييز المنتصب عن تمام الكلام مثل طاب زيد نفسا وحسن وجها وكرم أصلا ومثله الاسم المنتصب على الاستثناء كقولك جاءني القوم إلا زيدا لأنه من قبيل ما ينتصب عن تمام الكلام وأما تعلق الحرف بهما فعلى ثلاثة أضرب أحدها أن يتوسط بين الفعل والاسم فيكون ذلك في حروف الجر التي من شأنها أن تعدي الأفعال إلى ما لا تتعدى إليه بأنفسها من الأسماء مثل أنك تقول مررت فلا يصل إلى نحو زيد وعمرو فإذا قلت مررت بزيد أو على زيد وجدته قد وصل بالباء أو على وكذلك سبيل الواو الكائنة بمعنى مع في قولنا لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها بمنزلة حرف الجر في التوسط بين الفعل والاسم وإيصاله إليه إلا أن الفرق أنها لا تعمل بنفسها شيئا لكنها تعين الفعل على عمله النصب وكذلك حكم إلا في الاستثناء فإنها عندهم بمنزلة هذه الواو الكائنة بمعنى مع في التوسط وعمل النصب في المستثنى للفعل ولكن بوساطتها وعون منها والضرب الثاني من تعلق الحرف بما يتعلق به العطف وهو أن يدخل الثاني في عمل
العامل في الأول كقولنا جاءني زيد وعمرو ورأيت زيدا وعمرا ومررت بزيد وعمرو والضرب الثالث تعلقه بمجموع الجملة كتعلق حرف النفي والاستفهام والشرط والجزاء بما يدخل عليه وذلك أن من شأن هذه المعاني أن تتناول ما تتناوله بالتقييد وبعد أن يسند إلى شيء معنى ذلك أنك إذا قلت ما خرج زيد وما زيد خارج لم يكن النفي الواقع بها متناولا الخروج على الإطلاق بل الخروج واقعا من زيد ومسندا إليه ولا يغرنك قولنا في نحو لا رجل في الدار أنها لنفي الجنس فإن المعنى في ذلك أنها لنفي الكينونة في الدار عن الجنس ولو كان يتصور تعلق النفي بالاسم المفرد لكان الذي قالوه في كلمة التوحيد من أن التقدير فيها لا إله لنا أو في الوجود إلا الله فضلا من القول وتقديرا لما لا يحتاج إليه وكذلك الحكم أبدا فإذا قلت هل خرج زيد لم تكن قد استفهمت عن الخروج مطلقا ولكن عنه واقعا من زيد وإذا قلت إن يأتني زيد أكرمه لم تكن جعلت الإتيان شرطا بل الإتيان من زيد وكذا لم تجعل الإكرام على الإطلاق جزاء للإتيان بل الإكرام واقعا منك كيف وذلك يؤدي إلى أشنع ما يكون من المحال وهو أن يكون هاهنا إتيان من غير آت وإكرام من غير مكرم ثم يكون هذا شرطا وذلك جزاء ومختصر كل الأمر أنه لا يكون كلام من جزء واحد وأنه لا بد من مسند ومسند إليه وكذلك السبيل في كل حرف رأيته يدخل على جملة كإن وأخواتها ألا ترى أنك إذا قلت كأن يقتضي مشبها ومشبها به كقولك كأن زيدا الأسد وكذلك إذا قلت لو و لولا وجدتهما يقتضيان جملتين تكون الثانية جوابا للأولى
وجملة الأمر أنه لا يكون كلام من حرف وفعل أصلا ولا من حرف واسم إلا في النداء نحو يا عبد الله وذلك أيضا إذا حقق الأمر كان كلاما بتقدير الفعل المضمر الذي هو أعني وأريد وأدعو و يا دليل على قيام معناه في النفس فهذه هي الطرق والوجوه في تعلق الكلم بعضها ببعض وهي كما تراها معاني النحو وأحكامه وكذلك السبيل في كل شيء كان له مدخل في صحة تعلق الكلم بعضها ببعض لا ترى شيئا من ذلك يعدو أن يكون حكما من أحكام النحو ومعنى من معانيه ثم إنا نرى هذه كلها موجودة في كلام العرب ونرى العلم بها مشتركا بينهم وإذا كان ذلك كذلك فما جوابنا لخصم يقول لنا إذا كانت هذه الأمور وهذه الوجوه من التعلق التي هي محصول النظم موجودة على حقائقها وعلى الصحة وكما ينبغي في منثور كلام العرب ومنظومه ورأيناهم قد استعملوها وتصرفوا فيها وكملوا بمعرفتها وكانت حقائق لا تتبدل ولا تختلف بها الحال إذ لا يكون للاسم بكونه خبرا لمبتدأ أو صفة لموصوف أو حالا لذي حال أو فاعلا أو مفعولا لفعل في كلام حقيقة هي خلاف حقيقته في كلام آخر فما هذا الذي تجدد بالقرآن من عظيم المزية وباهر الفضل والعجيب من الوصف حتى أعجز الخلق قاطبة وحتى قهر من البلغاء والفصحاء القوى والقدر وقيد الخواطر والفكر وحتى خرست الشقاشق وعدم نطق الناطق وحتى لم يجر لسان ولم يبن بيان ولم يساعد إمكان ولم ينقدح لأحد منهم زند
ولم يمض له حد وحتى أسال الوادي عليهم عجزا وأخذ منافذ القول عليهم أخذا أيلزمنا أن نجيب هذا الخصم عن سؤاله ونرده عن ضلاله وأن نطب لدائه ونزيل الفساد عن رائه فإن كان ذلك يلزمنا فينبغي لكل ذي دين وعقل أن ينظر في الكتاب الذي وضعناه ويستقصي التأمل لما أودعناه فإن علم أنه الطريق إلى البيان والكشف عن الحجة والبرهان تبع الحق وأخذ به وإن رأى أن له طريقا غيره أومى لنا إليه ودلنا عليه وهيهات ذلك وهذه أبيات في مثل ذلك البسيط إني أقول مقالا لست أخفيه ولست أرهب خصما إن بدا فيه ما من سبيل إلى إثبات معجزة في النظم إلا بما أصبحت أبديه فما لنظم كلام أنت ناظمه معنى سوى حكم إعراب تزجيه اسم يرى وهو أصل للكلام فما يتم من دونه قصد لمنشيه وآخر هو يعطيك الزيادة في ما أنت تثبته أو أنت تنفيه تفسير ذلك أن الأصل مبتدأ تلقى له خبرا من بعد تثنيه وفاعل مسند فعل تقدمه إليه يكسبه وصفا ويعطيه هذان أصلان لا تأتيك فائدة من منطق لم يكونا من مبانيه وما يزيدك من بعد التمام فما سلطت فعلا عليه في تعديه هذي قوانين يلفى من تتبعها ما يشسبه البحر فيضا من نواحيه فلست تأتي إلى باب لتعلمه إلا انصرفت بعجز عن تقصيه
هذا كذاك وإن كان الذين ترى يرون أن المدى دان لباغيه ثم الذي هو قصدي أن يقال لهم بما يجيب الفتى خصما يماريه يقول من أين أن لا نظم يشبهه وليس من منطق في ذاك يحكيه وقد علمنا بأن النظم ليس سوى حكم من النحو نمضي في توخيه لو نقب الأرض باغ غير ذاك له معنى وصعد يعلو في ترقيه ما عاد إلا بخسر في تطلبه ولا رأى غير غي في تبغيه ونحن ما إن بثثنا الفكر ننظر في أحكامه ونروي في معانيه كانت حقائق يلفى العلم مشتركا بها وكلا تراه نافذا فيه فليس معرفة من دون معرفة في كل ما أنت من باب تسميه ترى تصرفهم في الكل مطردا يجرونه باقتدار في مجاريه فما الذي زاد في هذا الذي عرفوا حتى غدا العجز يهمي سيل واديه قولوا وإلا فأصغوا للبيان تروا كالصبح منبلجا في عين رائيه الحمد لله وحده وصلواته على رسوله محمد وآله
***